مقالات يناير 2002
الفن القبطى ..صورة مصر فى عصورها المتطورة
مينا بديع عبد الملك
ابتكر أقباط مصر عناصر الفن المسيحى المتمثل فى صناعة الأخشاب والفخار والزجاج وصناعة المعادن والعاج والعظم بالإضافة إلى الأيقونات والمنسوجات والعمارة. ويقول الأب يوساب السريانى إن فكرة الأيقونة من بدايتها كانت متداولة فى مصر حتى قبل بداية الفن المسيحى متمثلة فى بورتريهات الفيوم وأخميم، فكان الأقباط يضعون صورهم الخاصة فى منازلهم كما يحدث الآن فى العصر الحديث، ومنها أخذت الأيقونة، ولم يكن هذا الأمر موجودًا فى العالم المسيحى آنذاك. وكان الشعب القبطى فنانًا بطبيعته فقام بزخرفة المنازل والمبانى والكنائس بعناصر أخرى مثل النسيج والأحجار. فى بادئ الأمر ـ كما يذكر وديع حنا شنودة- كان من المعتقد أنه لا وجود لفن قبطى مستقل، وأن تلك الآثار المسيحية التى ترى ماثلة فى كنائس الأقباط وأديرتهم، ما هى إلا آثار بيزنطية يونانية. إلا أن أول من لاحظ استقلال الفن القبطى عن سواه من الفنون الأخرى هو العلامة ماسبيرو Maspero، وجاءت أقوال العلماء الذين قاموا بإحياء هذا الفن باكتشافاتهم وكتاباتهم أمثال بتلر وكلارك ودى كوسون وشاسينا وجاييه وإيفلين هوايت وأميلينو ودريتون وغيرهم من العلماء والباحثين والرحالة، مؤيدة ومجمعة على ذلك. ولو أنه ظهر على هذا الفن فى بادئ الأمر ( فى القرون الثلاثة الميلادية الأولى) مسحة التشابه مع الفن البيزنطى اليوناني، وذلك يرجع إلى ارتباط واتحاد الكنيسة القبطية مع الكنائس المسيحية عامة. ولكن منذ أن انفصلت الكنيسة القبطية عن الكنائس الغربية وأصبح لها وجود ذاتى مستقل أمكن للأقباط من ذلك الوقت أن يتخلصوا من كل شيء له علاقة بالفنون البيزنطية واليونانية، وعادوا إلى الصناعات المصرية الفرعونية مع إدخال التعديلات التى تتفق مع المعتقد الدينى المسيحى.
وهنا يقول الأب يوساب السرياني: لقد اقتبس فن مصر القبطى بعض عناصره من الفنون الأخرى خلال الأحداث السياسية أو العلاقات التجارية، فمثلاً بحكم موقع مدينة الإسكندرية الحساس أخذ الفنانون فيها عن الفن اليونانى الرومانى تيجان الأكانثاس بعد أن حوروها وجردوها من نسب الطراز الرومانى الأصلى وأبعاده، كما أخذ الفن القبطى كذلك من الفن البيزنطى ومن الفن الساسانى. ورغم كل ما اقتبس بقى الفن القبطى محافظًا على جوهر قوميته وأصالته.
وتذكر نعمت إسماعيل علام أن الفن القبطى هو الفن الأول فى الشرق الأوسط الذى كان من إنتاج الشعب ولم توجهه الدولة. ولقد أنتجه مسيحيو مصر منذ الفترة التى اعترفت فيها الدولة بالكنيسة عام 313م واستمر لفترة بعد الفتح العربى.
وقد اهتمت المتاحف الكبرى فى العالم بعرض نماذج الفن القبطى منها متحف اللوفر بباريس، ومتحف برلين بألمانيا، ومتحف المتروبوليتان بالولايات المتحدة، ومتحف لندن بالمملكة المتحدة، والمتحف الملكى ببلچيكا. كما اهتمت بعض جامعات العالم بإنشاء أقسام متخصصة لدراسة هذا الفن مثل قسم تاريخ الفن القبطى بجامعة "ليدن" بهولندا وقسم الدراسات القبطية بجامعة مونستر بألمانيا الذى أسسه الأستاذ الدكتور كراوزا وقسم الفن القبطى بجامعة وارسو ببولندا الذى يرأسه الأستاذ الدكتور جودلفسكى وقسم آخر بجامعة بباريس.
وهنا نذكر بكل تقدير العالم الفرنسى الدكتور بير دى بورجيه رئيس القسم القبطى بمتحف اللوفر بباريس الذى أصدر عدة مؤلفات عن الفن القبطى منها مجلد ضخم يختص بالنسيج القبطى فقط يحتوى على أكثر من 700 صفحة من القطع الكبير ويعتبر أكبر دراسة متخصصة عن النسيج القبطى. ومن شدة اهتمامه بدراسة هذا النوع من الفن ـ كما يذكر الأب يوساب السريانى ـ قام بصنع نول نسيج يدوى ليعمل عليه بنفسه حتى يستطيع أن يقف بنفسه على مختلف الطرق الفنية التى كان يستخدمها الأقباط منذ القرون الأولى.
وقبل أن نتعرض لدراسة هذا الفن فإنه يجب الإشارة إلى بعض أسماء المصريين الذين ساهموا ـ فى القرن العشرين ـ بجهد واضح فى هذا المجال منهم: مرقس باشا سميكة (مؤسس المتحف القبطى بالقاهرة)، د. سعاد ماهر محمد (فى النسيج القبطى)، الدكتور أحمد فخرى (فى الآثار)، الدكتور باهور لبيب (فى الآثار)، الدكتور حشمت مسيحة (فى الآثار)، الدكتور لبيب حبشى (فى الآثار).
صناعة الأخشاب: تجلى تفوق الأقباط فى فن النجارة فى درايتهم الكاملة بالأنواع المختلفة للأخشاب. فلم يتوقف استخدامهم على الأنواع المحلية ـ كما كان الحال عند قدماء المصريين ـ مثل خشب الجميز والنبق والسنط والنخيل، بل لجأوا إلى استيراد أجود الأنواع من الخارج مثل خشب الأبنوس من أثيوبيا وجنوب السودان، والأرز من لبنان وسوريا، والساج من الهند بالإضافة إلى خشب الجوز والبندق والبلوط من أوروبا وغرب آسيا وغيرها.
ففى بادئ الأمر عند استخدامهم للأخشاب المحلية، فإنهم كانوا يشقونها ألواحًا ويسكبون عليها المياه، ثم يتركونها معرضة للشمس مدة كافية حتى تجف، وحتى لا تلتوى بعد صنعها تبعًا لتغير حرارة الجو، ومنها ما كانت رائحته ذكية تساعد على منع الحشرات التى تفتك بها سريعًا.
وعندما استوردوا الأصناف الأخرى من الخارج نشأت لديهم طريقة تطعيم الخشب فيصنعون البرواز الخارجى من الخشب العادى ثم يزينون سطحه بحشوات منقوشة من أنواع أخرى فيزداد رونقها وبهاؤها.
وكان أعز أنواع الأخشاب عند الأقباط خشب الزيتون الذى ورد ذكره كثيرًا فى الكتاب المقدس، فكانوا يصنعون منه ـ وحتى الآن ـ الأختام المستخدمة فى ختم الخبز المقدس الذى يستخدم فى الصلوات الكنسية، وكذلك خشب الجميز، إذ يعتقد أنها شجرة مقدسة لكونها تعيش أجيالاً عديدة بدون رى بالماء حتى أن المصريين القدماء كانوا يكثرون من زراعتها بجانب المقابر والمعابد وصنعوا منها توابيت الموتى.
استمر تزيين الخشب ونقشه برسم صور دينية ومناظر من حياتهم وأعمالهم إلى حوالى القرن العاشر الميلادى فى عصر الفاطميين عندما تبدلت هذه الصور بأشكال هندسية ونباتية تتخللها صور الطيور والحيوانات.
وأهم ما يستلفت النظر فى صناعة الأبواب الدقيقة والحواجز الخشبية بالكنائس والتى يطلق عليها اسم حامل الأيقونات، أنها تتكون من عدة قطع صغيرة من الخشب المخروط أو المنقوش. وتتجلى روعة تلك الصناعة فى أنه يمكن تجميع أجزائها بعضها إلى بعض دون استعمال المسامير أو الغراء فى تثبيتها، وأن بين كل حشوة وأخرى تركت مسافة كافية مراعاة لما قد يحدث فى الأخشاب عادة من تمدد أو انكماش تبعًا لاختلاف فصول السنة فيتسنى لها بذلك أن تتكيف حسب اختلاف درجات الحرارة طوال العام.